أخر الاخبار

حكاية الهر مينوش المدغري

1 - متن الحكاية

   كان لدينا هر جميل، يحبه أهل بيتي ويحسنون إليه، ألاعبه وأجر له خيطا، فيتبعه ويجري وراءه ويثب عليه، اختارت له أختي اسم: مينوش، أهدته لنا جدتي -حفظها الله- لما زرناها في البادية، فسررنا بالهدية وكان يومها هرا صغيرا، قد كساه بياض كالثلج، وسواد كالليل، وأخذناه معنا إلى بيتنا، وأحببناه وألفنا، فصار كالواحد منا، وكان حينها يفر فيختبئ تحت كرسي أو أريكة، وكبر شيئا فشيئا.

   وكان أبي -رحمه الله- قد صنع له منفذا صغيرا في شباك النافذة ينفذ عبره إلى الداخل كلما شاء، فإن كان زجاج النافذة مغلقا، رأيته وأسرعت إليه وفتحته، وتارة يموء فنسمعه وندخله.

   والعجيب أن هذا المنفذ كان يشبه في شكله رأس الهر، له زوايا تشبه أذني الهر، لأن أبي - رحمه الله - كان أوصى صديقه الحداد بأن يشق له ذلك المنفذ لأجل الهر مينوش، فكلما وجد باب البيت مغلقا قفز إلى النافذة، ودخل علينا كدخول الأخ على إخوته، وربما شعر الهر مينوش بالسعادة عندما وجد منفذا يعبر منه إلى الداخل، كأن بيتنا صار بيته أيضا.

   وفي ليلة باردة من ليالي فصل الشتاء، قفز إلى النافذة مريدا الدخول إلى البيت، لأنه شعر بالبرد الشديد ، وكان الزجاج مغلقا، فأخذ يضرب زجاج النافذة برأسه فسمعته وأدخلته فوجدته مبللا بالمطر، وهكذا أحيانا، كان يمكث في الخارج حتى يهم بالدخول إلى البيت، ولا أنكر ذلك عليه لأنه هر، وتلك عادته.

   وفي ليالي الشتاء الباردة، كان ينام إلى جانبي أحيانا، فأحس بثقله على قدمي أو ساقي، وتراه قد قوس نفسه كالهلال ونام نومة هنيئة، ومرة تجده وقد أدخل رأسه يبحث تحت الفراش عن مكان ينام فيه، وليدفئ جسمه من البرد، وقد عاشرته وعرفته، وكان جميع من في البيت يحبه.

    وكان مينوش لا يؤذي من يلعب معه، وإن داعبه أحدنا فآذاه مخطئا فإنه لا يرد الإساءة انتقاما، وصبره على الأذى كان دليلا على حبه لنا.

    حتى بلغنا نبأ موته في إحدى الأيام من سنة ثلاثة وثلاثين  وأربعمائة وألف، فأفزعنا الخبر، وبكى من بكى لهوله، وحزنا لموته، لأن الهر مينوش قد فارقنا فراق الأخ الأصغر لإخوته وسمعت أخي يقول أن موته كان بسبب كلب شرس هاجمه وعضه، فقضى عليه.

   وافتقدنا هرا طيبا كريما، جعلناه في مرتبة الأخ الأصغر، وكان عمره من ولادته إلى وفاته خمسة أو ستة أعوام، وقد قلت أبياتا كثيرة حزينة، وحدثت لي معه طرائف صرت الآن أرويها للذكرى، وها قد مر على رحيله زمان ومازلت أذكره كأنه مات البارحة، فما زادني بعده عني إلا قربا من قلبي، ومن شعري الذي رثيته به هذه القصيدة:

ومينوش هر قليل السؤال * كثير الطروق جميل الوصال

أهدته لي جدتي مذ أتينا * فربيته كالطفل المذال

وكنت له كالأب المهدي حبا * وكان مطيعا صافي الخلال

إذا ناداه الغريب يوما * يلبي نداء الورى لا يبالي

وإن مات هري فما مات حقا * وأخلاقه تسموا كالجبال

ويوم سرنا معا يا صديقي * - نروم العلا مطمحا - كالنصال

وداعا يا خير هر وداعا * فمالك ألا ترد سؤالي ؟

وأذكر هري فيزداد حزني * عسى أن ألقاه يوم السؤال

وهر كريم لا خبث فيه * إذا زرته خلته كالرجال

وتلك العهود عساها تعود * وإحياؤها بعيد المنال

وهري كان هرا جميلا * وأخلاقه بنت النوال

وفاضت دموعي من الحزن تترى * على فقد ذاك الغريب المثال

هي الدنيا لا تسر فتبقى * وإحسانها سريع الزوال

وتلك الجسوم تموت وتبقى * أخلاق الفتى مثل الجبال

   وفي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وألف، كنت رحلت إلى تطوان في طلب العلم، وفارقت أبواي وإخوتي، وأصحابي، وبيتي، وتذكرت هري وأنا في تطوان غريب، وقد اشتد بي الشوق إليه، فقلت:

(يتبع)

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(عدد كلمات المقال:  / حجم الصورة: 22.6 كيلوبايت).

حكاية الهر مينوش المدغري
حكاية الهر مينوش المدغري




تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -