عبد الرحمن بن عوف
ولد بعد الفيل بعشر سنين، وكان اسمه في الجـ.ـاهلية " عبد الكعبة" أو "عبد عمرو"، فسميَ "عبد الرحمن".
وكان طويلاً، أبيض اللون، حسن الوجه، ضخم الكفين، شعره أسفل أذنيه.
لما أسـ.ـلم أبو بكر دعا إلى الله ورسوله من وثق به من قومه، فأسلم بسبب دعوته جماعة منهم عبد الرحمن بن عوف.
سافر عبد الرحمن إلى اليمن قبل أن يُبعثَ الرسـ.ـول بسنة، ونزل على رجل اسمه (عسكلان بن عواكن الحميري)، وكان شيخا كبير السن، وكان يسأل عبد الرحمن عن مكة وعن الكعبة وعن زمزم، ويقول له:
يا عبد الرحمن، هل ظهر فيكم رجل خالف أحداً منكم في دينه ؟
فيقول عبد الرحمن: لا. ثم ذهب عبد الرحمن إلى اليمن بعد أن بَعث اللهُ الرسولَ، ونزل على (عسكلان) كعادته.
فقال لعبد الرحمن: ألاَّ أبشرك ببشارةٍ، وهي خير لك من التجارة؟
فقال عبد الرحمن: بلى.
فقال: إن اللهَ قد بعثَ من قومك نبيًّا، وأنزل عليه كتاباً، وهو يدعو إلى الإسـ.ـلام، وينهى عن عبادة الأصنام.
فقال له عبد الرحمن : ممن هو ؟
فقال : هو من بني هاشم، وأنتم أخواله. يا عبد الرحمن، ارجع إلى مكة سريعاً، وصدق هذا النبي وانصره.
فقضى عبد الرحمن حوائجه، وأسرع في العودة إلى مكة، ولقيَ أبا بكر – وكان له صاحباً – وأخبره بكل ما سمعه.
فقال له أبو بكر: إنّ الله قد بعثَ محمدَ بنَ عبد الله رسـ.ـولاً إلى خلقه، فاذهب إليه.
فذهب عبد الرحمن إلى الرسـ.ـول وهو في بيت خديجة فلما رآه الرسـ.ـول ضحك، وقال له: " أرى وجهًا أرجو له الخير". فأسلم عبد الرحمن، وشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسـ.ـولَ الله.
اتفقت قريش فيما بينها على أن يعذبوا كل من أسـ.ـلم حتى يترك هذا الديـ.ـنَ، وأخذت كل قبيلة تعذب كل من أسـ.ـلم فيها عذاباً شديداً، حتى أن الجُعْل كان يمر بأحدهم فيقول لمن يعذبه: هذا إلهك ؟
فيقول: نعم، من شدة العذاب. وحمى الله نبيهُ بسبب مكانة عمه أبي طالب.
لما اشتد تعذيب المشـ.ـركين للمسـ.ـلمين أمرهم الرسول بالهجرة إلى الحبشة، وهاجر عبد الرحمن، واستطاع أن يعبد ربه دون خوف أو أذى من أحدٍ.
ولما شاع أن قريشاً دخلت في الإسـ.ـلام رجع عبد الرحمن مع جماعة من المسـ.ـلمين إلى مكة، ولما اقتربوا من مكة عرفوا أن ما سمعوه عن إسـ.ـلام قريش كان كذباً ولم يستطع واحد منهم أن يدخل مكة إلاَّ في جوار أو مستخفياً، ولم يطل بقاء عبد الرحمن في مكة، فقد أذن له الرسـ.ـول بالهجرة إلى يثرب.
استقر عبد الرحمن في يثرب، وظل ملازماً الرسـ.ـول، وكان يسارع في طاعته، وشهد مع الرسـ.ـول غـ.ـزوة بدر والمشاهد كلها.
ومما وقع له في غزوة بدر أنه كان يحمل أدرعاً له، فمر بأمية بن خلف ومعه ابنه علي بن أمية.
فقال له أمية: هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك ؟
فقال عبد الرحمن: نعم. وألقى الأدراع، وأخذ بيد أمية وابنه علي، ورأى بلال أمية وكان هو الذي يعذب بلالا في مكة لكي يترك الإسـ.ـلام.
فقال بلال: يا أنصار الله، رأس الكـ.ـفر أمية بن خلفٍ، لا نجـ.ـوت إن نجا.
فقال عبد الرحمن: أبأسيري، أتسمع يا ابن السـ.ـوداء ؟
فقال بلال : لا نجوت إن نجا.
فأحاط المسـ.ـلمون بعبد الرحمن وأمية وابنه، وكان عبد الرحمن يدافع عنهما، فلم يكف المسـ.ـلمون حتى قتلوا أمية وابنه.
يقول عبد الرحمن: يرحم الله بلالاً، ذهبت أدرعي وفجعني في أسيري.
وفي غـ.ـزوة أحد أظهر شجاعة لا مثيل لها، فقد ظل يقاتل حتى أصابته عشرون ضربة عرج بسببها وهُتِم [ربما تعني تكسرت ثناياه أي أسنانه الأمامية]، وفي "غـ.ـزوة تبوك"، وهي آخر غزوة غزاها في حياته، كان المسـ.ـلمون في حاجة شديدة إلى المال، حتى إن جماعة المسـ.ـلمين طلبوا من الرسول أن يأخذهم معه في قتـ.ـال الـ.ـروم فاعتذر الرسـ.ـول، لأنه لم يجد عنده الرواحل التي يحملهم عليها، وكان جيش المسـ.ـلمين يُعرف بجيش العُسْرة.
عندئذ أمر الرسـ.ـول أصحابه بإنفاق المال في سـ.ـبيل الله وكان عبد الرحمن في أوائل المستجيبين لدعوة الرسـ.ـول، وتصدق بمائتي أوقية من الذهب، فقال له الرسول:
" ياعبد الرحمن، هل تركت لأهلك شيئاً " ؟
فقال عبد الرحمن : نعم، لقد تركت لهم أكثر مما أنفقت.
فقال له الرسول :كم ؟
فقال عبد الرحمن: ما وعد الله ورسوله من الرزق والخير والأجر.
وكان عبد الرحمن رجلاً كريماً، وقد سبق أنه تصدق بمائتي أوقية من الذهب في تجهيز جـ.ـيش العـ.ـسرة، وتصدق مرة على عهد الرسـ.ـول بأربعة آلاف دينار، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، وحمل على خمسمائة راحلة في سبيل الله.
وأعتق في يوم واحد ثلاثين عبداً، وأوصى لأمهات المؤمـ.ـنين بحديقة ثمنها أربعمائة ألف، وأوصى لمن بَقِيَ من البدريين لكل واحد منهم بأربعمائة دينار، وأوصى بخمسين ألف دينار في سبـ.ـيل الله، وألف فرس.
وكان عبد الرحمن أحد كبار الزهـ.ـاد من أصحاب الرسول، وكان كثير الصـ.ـوم والبكـ.ـاء، وكان رقيق القلب جدا.
ومما يدل على زهده ورقة قلبه أنه كان صائما في يوم، ولما وضع له الطعام ليفطر نظر إليه، ثم قال:
قتل "مصعب بن عمير" وهو خير مني، فكفن في بردة إذا غطي رأسه بدت رجلاه، وإذا غطي رجلاه بدا رأسه، وقتل " حمزة" وهو خير مني، يعني: ولم يوجد ما يكفن فيه إلاَّ بردة، ثم بكى وترك الطعام.
ومما يدل على زهده أيضاً ما حكاه نوفل بن إياس قال: كان عبد الرحمن لنا جليسا، وكان نعم الجليس، فذهبنا معه مرة إلى بيته، وأحضر لنا خبزاً ولحماً، ثم بكى.
فقلنا له: يا أبا محمد، لماذا تبكي؟
فقال: مات رسـ.ـول الله، ولم يشبع هو وأهله من خبز الشعير.
(...)
ولما طعن عمر وجعل الشورى في ستة من أصحاب الرسـ.ـول كان عبد الرحمن من بينهم، وهو الذي سأل الناس عن عثمان وعلي لكي يولي أحدهما الإمارة، ولما رأى الناس يقدمون عثمان بايعه وبايعه الناس بعده.
ولما مَرِضَ عبد الرحمن المرض الذي مات فيه، بعثت له أم المؤمـ.ـنين عائشة تخبره أنها قد أذنت له أن يدفن بجوار النبي وصاحبه.
فقال لها لن أضيق عليك بيتك، وإني كنت عاهدت عثمان بن مظعون أيّنا مات أولاً دُفن الآخر إلى جنبه.
وكانت وفاته سنة اثنتين وثلاثين، وصلى عليه عثمان.
ـــــــــــــــــــــ
(المصدر: الشامل / عدد كلمات المقال: 945 / حجم الصورة: 57.9 كيلوبايت).
سيرة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه |
اكتب تعليقك هنا